إعداد: سلطان الشمري
تصوير: نايف السلحوب
"فلان كرمه حاتمي".. مقولة قالتها العرب كناية عن بلوغ الشخص الحد الأعلى في الكرم والبذل والسماحة، ولا تزال تستخدم في يومنا هذا، منبعها أيقونة خالدة للكرم العربي الأصيل، حاتم بن عبدالله بن سعد الطائي (ت46ق.هـ - 578م)، الذي سارت بذكره الركبان، وحبّرت من أجل كرمه الكتب والدواوين، ونحتت سمعته الطيبة على صفحات التاريخ مجدًا تليدًا له ولأسرته ولقبيلته من بعده، فما يُذكر الكرم حتى يُذكر حاتم، فهو أشهر من أوقد ناره للضيف.
أدّت شخصية حاتم دورًا محوريًّا في تشكيل الهوية الثقافية والاجتماعية للمنطقة، بفضل كرمه وجوده وشجاعته، وأصبح رمزَ فخر لأهل حائل، وأُعجب العرب بشهامته، وبكرمه الذي تخطّى الحدود الجغرافية؛ ليتردّد صداه في الجزيرة العربية بأسرها، وترددت القصص المروية عن كرمه، حتى أصبح مصدر إلهام للأجيال المتعاقبة على مرّ الزمان، حتى يومنا الحاضر، وتحتفظ منطقة حائل بهذا الإرث العريق الذي ترك بصمة في تاريخ الأدب العربي.
وفي تقرير لهيئة وكالة الأنباء السعودية (واس) يترجم توجه وزارة الثقافة بتوثيق المواقع المكانية في المملكة التي عاش فيها الشعراء العرب، تسلط فيه الضوء على الشاعر حاتم الطائي وجوانبه الشخصية والمواقف النبيلة والقصص الشهيرة التي تجسد كرمه الحاتمي، ومنها قصته الشهيرة التي ذبح فيها فرسه لإطعام ضيوفه، على الرغم من أن فرسه تلك كانت أعزّ ما يملكه، ولا تزال هذه القصص حيّةً في وجدان أهل المنطقة يروونها جيلًا بعد جيل.
وكان حاتم شاعرًا، تعكس أشعاره القيمَ التي كان يتحلّى بها، وغالبًا ما تناولت موضوعات الكرم والشهامة، وفلسفته في الحياة وتمسكه بقيم الكرم والشجاعة التي عاش من أجلها، ومن أمثلة ذلك قصيدته الشهيرة، التي كان يردّ خلالها على ما عيِّر به من كثرة إنفاقه وإفراطه بالكرم، فأنشد قائلًا لزوجته (ماوية) التي كانت ممن يلومونه على إنفاقه المال، موضّحًا نظرته للمال، وأنه زائل، وفضّل أن يصرفه في سبيل مساعدة الآخرين:
أماويّ إن المال غادٍ ورائحٌ ويبقى من المال الأحاديث والذكرُ
ولا خيرَ في مالٍ إذا لم يكن به صنيعةُ معروفٍ يدومُ لها الشكرُ
وبحسب أستاذ التاريخ المساعد بجامعة حائل الدكتورة سعداء البشير العنزي، فإن حاتم الطائي ذلّل المالَ، ولم يَذِلَّ هو للمال، ونظر إليه نظرة ساميةً، جعلته يسخّره في وجوه الخير، ومن مظاهر جوده أنه وظّف المال لفكّ العاني (الأسير)، ليعيد إليه حريته، و قد ترجم فعله ذلك بقوله:
إذا كان بعض المال ربًا لأهله فإني بحمد الله، مالي معبَّدُ
يفكّ به العاني، ويؤكَل طيبًا ويعطَى إذا مَنَّ البخيلُ المطرّدُ
ولم يكن حاتم الطائيّ -بحسب الدكتورة العنزي- كريمًا وجوادًا فحسب، بل كان متحلّيًا بمكارم الأخلاق، فقد كان عفيفًا مراعيًا لحرمة جاره، رحيمًا يرفق بالضعفاء، متغاضيًا عن الحاسدين والمنافقين، متسامحًا صفوحًا يغفر الزلّات، وينصر المظلوم ويصل الرحم، يقول في هذا الشأن مخاطبًا زوجته:
لا تعذليني على مال وصلت به رحمًا وخير سبيل المال ما وصلا
كما تأصلت في نفس هذا الجواد قيمة الوفاء، يقول في ذلك:
الله يعلم أني ذو محافَظة ما لم يخني خليلي يبتغي بدلا
فإن تبدّل ألفاني أخا ثقة عفّ الخليقة لا نِكسًا ولا وكلا
وتقع "مضارب حاتم الطائي" في "قرية توارن" التي احتضنت منزله وقبره في الجزء الشمالي الغربي من منطقة حائل، وتبعد عنها نحو (70) كيلومترًا، وسطَ وادٍ فحل تلتقي به عدّة أودية من أشهرها: "وادي عاجزة"، وتحيط بها جبال "أجا" من جميع الأطراف، وتضمّ منازل بُنيت من الحجر والطّين، وأطلال منزل قديم وسط القرية، وبالقرب منه مقبرة صغيرة ‏تحتوي على (قبرين)، يُعتقَد حسب الروايات، أن أحدهما هو قبر ‏حاتم ‏الطائيّ.
يقول أحد سكان "قرية توارن" بادي بن دويلي بن بادي العضيباوي (71 عامًا): "إنّ القرية تحوي معالم أثرية تعود إلى عصور تاريخية مختلفة، ومن ذلك منزل حاتم الطائي بتصميمه الدائري المكون من الصخور الجبلية والطين ومن سعف وجذوع النخل والأثل، وهو أحد أهم المعالم الأثرية الثقافية في المنطقة، لتمركزه وسط وادي عاجزة المتميز بجمال طبيعته وتنوع تضاريسه وانبساط أرضه، ذات ‏التربة ‏الحمراء التي تسمى البطحاء، وتشتهر ببساتين النخيل، والعيون، والآبار، والسدود، وأشجار الطلح، والسدر البري الكثيف الذي يمتد على جانبي الوادي، وعدد من ‏أنواع الطيور التي تسكن هذا المكان، ما جعله منتجعًا سياحيًا مفتوحًا للزوار من داخل المنطقة وخارجها على مدى العام".
وتعدّ "موقدة حاتم الطائي"، التي تقع في قمة "جبل السمراء"، شرق مدينة حائل من الرموز التي ارتبطت به، وهي مكان كان يشعل فيه النار؛ لاستقبال الضيوف والمارّة في الليل، فقد كان إيقاد النار علامة ترحيب بالضيوف. يقول حاتم عن ناره التي يوقدها ليهتدي بها الضيوف:
إذا ما البخيل الخب أخمد ناره أقول لمن يصلى بناري أوقدوا
وتشكل "الموقدة" معلمًا تاريخيًا في منطقة حائل التي تجسّد الكرم والشهامة، وهي لا تزال مزارًا ثقافيًّا وسياحيًّا، ليصبح حاتم رمزًا تاريخيًّا يعكس تلك القيمة العظيمة للضيافة في التراث العربيّ، وما زال أهل المنطقة يحتفون بهذا التراث، حيث يُعبّرون عن تقديرهم لقيم الكرم من خلال استذكار قصصه وربطها بواقعهم المعاصر.
وتؤكد الدكتورة العنزي أن أثر حاتم الطائيّ وإرثه الثقافيّ لم يقتصَر على منطقة حائل أو الجزيرة العربية فحسب، بل امتدّ ليكون جزءًا من الثقافة العربية كلها، فقد سطّر اسمه مثالًا للكرم الذي بلغ الغاية، لتشيد كثير من القصائد العربية بأخلاقه وسيرته تاريخيًّا، واستمرّ ذكر حاتم الطائي عبر العصور، بوصفه رمزًا للكرم العربيّ، وخلّدت الأدبيات والتقاليد الشفوية العربية سيرته التي أصبحت مصدر إلهام للمجتمعات العربية في تعاملاتهم ومعاييرهم الأخلاقية، وترك أثرًا وبصمةً واضحةً على الثقافة والقيم الاجتماعية في منطقة حائل، وما زال يُحتفى به رمزًا للكرم العربيّ الأصيل من خلال القصص والأشعار التي خلدتها سيرته العظيمة.